الحكومة الذكية لا تُنتجها العقول الغبية

تعتبر الحكومة الالكترونية الذراع الأيمن للدول الناجحة في العالم، وتُعتمد كآلية رئيسة لترسيخ الأمن وتوفير الخدمات العامة بجودة عالية دون أي هامش للخطأ والفساد، وهو نظام حديث يعتمد على استخدام شبكة الانترنت في ربط المؤسسات بعضها البعض من خلال بوابات ال

تعتبر الحكومة الالكترونية الذراع الأيمن للدول الناجحة في العالم، وتُعتمد كآلية رئيسة لترسيخ الأمن وتوفير الخدمات العامة بجودة عالية دون أي هامش للخطأ والفساد، وهو نظام حديث يعتمد على استخدام شبكة الانترنت في ربط المؤسسات بعضها البعض من خلال بوابات الكترونية وتطبيقات مبرمجة بسياقات تتصف بالسرعة والدقة والشفافية.
أما الحكومة الذكية فهي التطور الطبيعي لنموذج الحكومة الالكترونية الذي عايشته الدولة المتقدمة خلال العقد الاول من الالفية الثالثة لتكمل ما تمّ استثماره تكنولوجياً عبر تطوير علاقة المواطن مع المؤسسات والخدمات، حيث جرى تطوير الحكومات بشكل أكثر من خلال التفاعل مع المعلومات المنتشرة في المجتمع والمؤسسات، اقتصادياً وأمنياً وبيئياً، باستخدام أجهزة وبرامج الاستشعار الذكي المتصلة بشبكة الانترنت ابتداءً من تطبيقات الهواتف الذكية وكاميرات المراقبة الامنية واجهزة استهلاك الطاقة الكهربائية وليس انتهاءً بالانظمة الصحية والمناخية ودوائر الدولة العامة المرتبطة بـ بنك المعلومات الذي تديره الحكومة. هذه المنظومة الذكية ساعدت الكثير من دول العالم المتحضر، كدولة الامارات العربية المتحدة وسنغافورة وغيرها، في اختزال الزمن وخلق بيئة الكترونية رصينة تعين الحكومة على تشغيل وصيانة مؤسساتها ذاتياً وتوفير الخدمات بدقة فائقة وبكلفة قليلة دون اي عرضة للتجاوزات الادارية والأخطاء البشرية، فضلاً عن توفير واردات مجزية للدولة من خلال اتاحة هذه الخدمات للمواطن والمؤسسات الخاصة.
في عام ٢٠٠٦، بعد انتخاب اول حكومة دستورية اتحادية في العراق، كنتُ قد اقترحتُ على بعض المسؤولين في الحكومة العمل على تطوير الحكومة الالكترونية لتكون بداية تهدف الى القضاء على البيروقراطية والفساد وسوء الادارة معاً، وكذلك تطوير الجودة والكفاءة في توفير الخدمات العامة وخلق بيئة آمنة للمواطن وواعدة للاستثمارات وجاذبة للعملة الصعبة. لم يكن التجاوب جاداً مع الفكرة، حيث كانت أسعار النفط في تصاعد وقادة القوى السياسية في سكرة انتعاش الواردات، فضلاً عن توجه الكتل الانتخابية الى كسب أكبر تأييد شعبي من خلال توفير فرص عمل في القطاع الحكومي لقواعدهم الشعبية، حتى تَضَاعَفَ ملاك الدولة بين ليلة وضحاها مما جعل المواطن لا يُفكر الا بالحصول على وظيفة حكومية كبوليصة تأمين تؤمن له دخلاً شهرياً دون أي ناتج محلي يُذكر، فكانت النتيجة: دولة مترهلة بقيادة فاسدة وملاك وهمي وادارة فاشلة وهدر للواردات.
مرّ عقد من الزمن حتى التقيتُ بمسؤول آخر في الدولة كانت قد انيطت به متابعة ملفات الاصلاح الاداري والاقتصادي بداية عام ٢٠١٦، وتمحور حديثنا عن سبل الاصلاح وايجاد الحلول في ظل تدهور اسعار النفط وزيادة عجز الموازنات والترهل الاداري والفساد الذي اصاب جميع مفاصل الدولة، وقد سألني: هل من جديد في سبل الاصلاح؟ فنصحته حينها باعتماد الحكومة الالكترونية وتنضيج أنظمتها الادارية للانتقال الى الحكومة الذكية وتطبيقاتها، لكن هذه المهمة تحتاج الى طاقات نوعية وكفوءة وموازنة بملايين الدولارات، ولا تقل مسؤولية من يقوم على ادارتها عن مسؤولية رئيس مجلس الوزراء. ابتسم لي وقال، “سهلة، لقد بدأنا بهذا المشروع حيث طوّرنا بوابة الحكومة الالكترونية، بدون اي تكاليف تُذكر ومن خلال شباب متطوعين، وقمنا بوضع برنامج تسجيل الشركات كمرحلة اولى، حيث يمكنك التسجيل خلال اقل من ساعة”!.. حقيقةً ذُهلت من جوابه وقلت “معقولة؟! هذه معجزة إن صَحّت؟!” لأنني أعرف ما يستوجبه انجاز كهذا بحكم خبرتي في ادارة مشاريع الحوكمة الالكترونية في بريطانيا خلال تسعينيات القرن المنصرم، وإذا بالاخ المسؤول يعرض عليّ البرنامج من خلال هاتفه، فإذا به عبارة عن صفحة انترنت بائسة ورديئة تعرض طلب معلومات ووثائق خاضعة لذات السياقات التعجيزية التي تستهلك ‎عدة أشهر وآلاف الدولارات لإنجازها. حينها علمتُ انني أجلس الى انسان قد جمع بين الغباء والدجل بدهاء المحاصصة، وبيده ملفات اصلاح الدولة العراقية الفاشلة، فانسلختُ من مجلسه متمتماً بأبيات الجواهري: “ستَبقى طويلاً هذه الأزماتُ
إذا لم تُقصِّرْ عُمرَها الصدَّمَاتُ
إذا لم يَنَلْها مُصلحونَ بواسلٌ
جريئونَ فيما يَدَّعونَ كُفاة
سَيبقى طويلاً يَحمِلُ الشعبُ مُكْرَهاً
مَساوئَ مَنْ قد أبْقَتِ الفَتَرات”.
لعل أكبر معضلة يواجهها المواطن العراقي يومياً قبل أي تحد آخر بما فيها الامنية والاقتصادية، هي معضلة انجاز المعاملة. لقد استهلكت مهمة انجاز المعاملات من الانسان العراقي أغلب العمر خلال جولات مارثونية قلّ نظيرها  في العالم، ففي زمن الدكتاتورية كانت البيروقراطية المفتعلة وسيلة لإلهاء المواطن عن التفكير في زمن الحروب العبثية، أما في عصر “الديمقراطية” فتعتبر البيروقراطية وفرض الروتين القاتل أفضل سياسة لتركيع الفرد بسياقات لا تعطيه فرصة الابداع وانتاج البديل عن الفاسد والفاشل الذي يتحكم بمقدرات الدولة، حيث يكون صاحب المنصب هو المُستثنى الوحيد من كل هذه العراقيل المعطلة في حياة الشعب.
اذا كان ثمة انجاز رئيسي وحقيقي سَيُشاد به لأيّ حكومة ‎عراقية فهو تفعيل ملف الاصلاح الاقتصادي والاداري، لذا يجب الإسراع بتكليف فريق مهني ومشهود له بالكفاءة العالمية يتمتع بصلاحيات واسعة ليقوم بالتعاون مع كبريات الشركات العالمية الرصينة في بناء منظومة الحكومة الالكترونية الذكية، وبسقف زمني معلوم وبمراحل عملية وتدريجية تكملها الحكومات اللاحقة، بعد مراجعة السياقات العامة والتوصية بتشريعات جديدة تسهل عمل المنظومة، فلا نجاة للعراق من الفساد وسوء الإدارة والترهل الحكومي والانفلات الأمني من دون اعتماد هذا الحل الجذري للحاق بركب الدول المتطورة التي أعدّت عدتها للألفية الثالثة في حين ما زال العراق يراوح مكانه باعتماد سياقات ادارية ورثها من الدولة العثمانية التي أنهارت قبل قرن.
عملياً، الحكومة الالكترونية لا تصنعها حكومة المحاصصة، أما الحكومة الذكية فيقيناً لا تنتجها العقول الغبية.