الشعب بحاجة إلى استفتاء على وحدة العراق

منذ يومين كنت في مدينة النجف الأشرف، في زيارة مخصوصة لمرقد الامام علي (ع)، وأكثر ما أسعدني في مشاهداتي هو توافد الزائرين العراقيين من كل أطيافهم والدعاء تحت قبة إمام الإنسانية، وأنا استمع الى لهجاتهم الجميلة المختلفة يسألون الله تضرعاً بحبه للعبد الص

منذ يومين كنت في مدينة النجف الأشرف، في زيارة مخصوصة لمرقد الامام علي (ع)، وأكثر ما أسعدني في مشاهداتي هو توافد الزائرين العراقيين من كل أطيافهم والدعاء تحت قبة إمام الإنسانية، وأنا استمع الى لهجاتهم الجميلة المختلفة يسألون الله تضرعاً بحبه للعبد الصالح، علي بن ابي طالب، أن يمنّ عليهم بالأمن والسلام والمحبة والطمأنينة. أناس جمعتهم وحدة الدعاء وصفاء النية وروح وطنية قلّ نظيرها على اختلاف قومياتهم ومشاربهم الثقافية. بعدها خرجت من المقام الشريف متوجهاً الى صندوق الأمانات لأخذ هاتفي، فتحته فإذا بِكَم الأخبار وهَول التصريحات غير الموفقة التي تهدد بتقسيم العراق وشرذمة شعبه، عندها تأكدت يقيناً أن الساسة في وادٍ والشعب في وادٍ آخر.
لا يختلف اثنان في العالم على حجم المعاناة التي تَحَمَّلها أبناء الشعب العراقي من القومية الكردية منذ قيام الدولة العراقية الحديثة عام ١٩٢٠ الى سقوط النظام البعثي عام ٢٠٠٣. حتى بات البعض مقتنعاً بأن للقومية الكردية كامل الحق في تقرير مصيرها وتحقيق حلم الدولة الكردية الآمنة بمعزل عن الفوضى العراقية، خصوصاً بعد حملات الأنفال سيئة الصيت والقصف الكيمياوي لحلبجة وأحداث الانتفاضة الشعبانية عام ١٩٩١. لكن ما يحول بين الحلم والواقع ثلاثة عوائق أساسية، الاول هو تعقيد المشهد الكردي حيث يمتد شعب كردستان الكبرى في أربع دول إقليمية، هي العراق وإيران وتركيا وسوريا، ترى أنظمتها أن في استقلال الكرد بداية لتقسيم بلدانها. العائق الثاني هو موقف المجتمع الدولي الثابت ابتداءً بعصبة الأمم وانتهاءً برأي الأمم المتحدة ومجلس أمنها الرافض لإنشاء دولة قومية للكرد في شرق أوسط مرتبك سياسياً وأمنياً. أما العائق الثالث فيكمن بعدم تماسك الاطياف السياسية الممثلة للشعب الكردي وغياب وحدتها في البلدان الحاضنة لها، مما قد يكون عامل تهديد لاستقرار وأمن دول الشرق الاوسط  في حال الاعتراف باستقلالهم. لذا، كان الرأي العالمي وما زال هو إعطاء الشعب الكردي حقوق المواطنة كاملة وغير منقوصة ضمن الدول الشرق أوسطية الأربع التي تحتضن أكثر من ثلاثين مليون كردي.
من جهة أخرى، هناك أيضاً شبه اجماع دولي على حجم المظالم الهائلة التي نالت من جميع أطياف الشعب العراقي تحت حكم حزب البعث البائد، حيث تجلت بأبشع صورها بعد اكتشاف المقابر الجماعية والسجون السرية واستمرار الارهاب الذي قادته فلول البعث الصدامي بعناوين مختلفة بعد انهيار الدكتاتورية. سوف لن اتطرق الى أيِّ سرد تأريخي في هذا المقال، فقد اشبعه المثقفون تحقيقاً وتحليلاً، لكن لا بُد من استعراض بعض الحقائق الرئيسة إذا ما اردنا وضع الحلول الضامنة لوحدة العراق، موضوع هذا المقال:
أولاً: لم يكن المواطن العراقي من القومية الكردية المظلوم الوحيد في سجل تأريخ الدولة العراقية الحديثة، بل تعدت المظلومية على شرائح الشعب التي خانتهم اللوبيات والمؤسسات الاعلامية في توثيق عذاباتهم بأشكالها المتعددة، قرابة قرن من الزمن.
ثانياً: لا يمكن أن تتحمل الحكومات العراقية المنتخبة بعد عام ٢٠٠٣ (حيث الكرد شركاء أساسيين فيها) وكذلك الشعب العراقي جريرة الانظمة الدكتاتورية الظالمة التي لم تكن خيار الشعب. لذا من غير المعقول أن يتحمل الشعب العراقي والأجيال المقبلة دفع ضرائب الماضي وفواتير التعويضات التي انهكت واستنزفت واردات العراق المحدودة، نيابة عن الدكتاتوريات البائدة، في حين يجب أن تكون الاولوية لمشاريع إعادة الاعمار الضامنة لدولة مزدهرة تخدم جميع ابناء الشعب والأجيال المقبلة.
ثالثاً: لعلَّ أبرز العوامل الرئيسة التي منعت تطبيق النظام الاتحادي في العراق هو تعطيل العمل بدستور عام ٢٠٠٥ والاعتماد على المادة ١٣٠ التي مدت في عمر القوانين المركزية المناقضة لروح الدستور الاتحادي وتطبيق اللامركزية. كل هذا بغياب محكمة دستورية اتحادية تتوافق مع المادة ٩٢ من الدستور، والتباطؤ في تشريع قوانين توزيع الواردات الاتحادية لضمان حقوق الشعب دستورياً بحسب المادة ١٠٦ من الدستور وكذلك تشريع قانون النفط والغاز الاتحادي بما ينسجم مع المواد الدستورية ١١١ و ١١٢، وإنشاء المؤسسات الاتحادية التي تترجم تنفيذ هذه القوانين الاساسية.
رابعاً: تعطيل المادة ١٤٠ من الدستور واعتماد التوافقات قصيرة الأمد بديلاً عن الخيار الديمقراطي الدستوري في صناعة القرار، والاستناد الى الاتفاقيات السياسية التي تصطدم مع الدستور في تمرير الموازنات الاتحادية أصبحت من السياسات السائدة في رسم معالم الدولة بعد ٢٠٠٣، حتى بات رؤساء الاحزاب ومن خلفهم بعض الأميين وعرّابي النزاعات وأمراء الطوائف الذين اختطفوا أصوات الشعب العراقي وشرعنوا لدورهم المشبوه من خلال عملية سياسية مشوهة هم من يقرر مصير شعب مظلوم.
خامساً: لا بد من الاعتراف بأن جميع اطراف العملية السياسية، وخصوصاً بعض رؤوسها الفاسدة والفاشلة، كانت وراء اجهاض قيام فيدرالية ناجحة في العراق بسبب تحالفاتها الشخصية والوقتية التي لم تخدم الصالح العام، لذا من غير الصحيح أن نكتب الفشل على النظام الاتحادي الفيدرالي في العراق بدون اعطاء التجربة حقها وبقيادة نوعية وكفوءة وعالمة في إدارة الدولة. أما الحديث عن الكونفيدرالية، فيعني تقسيم العراق بعينه، لأن هذا النظام هو عبارة عن اتحاد لدول مستقلة ومعترف بسيادتها عالمياً وهو أمر غير عملي إن لم يكن غير وارد في ظل الوضع الاقليمي، فضلاً عن كونه انتحاراً سياسياً بعين غالبية الشعب العراقي.
لذا، على الرغم من تدهور العلاقات بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، ودعوة الاخيرة الى الاستفتاء على الانفصال بحجة فشل النظام الاتحادي، فإن المجتمع الدولي لن يتعاطف مع موضوع استقلال كردستان العراق امام جميع المكاسب الهائلة التي حققها الاقليم بعد عام ٢٠٠٣ وما يتمتع به ابناء الشعب العراقي من الكرد مقارنة بأقرانهم في دول الجوار. بل إن العالم غير مستعد أن يتهدد أمن الشرق الأوسط بسبب تبعات مشروع الانفصال الذي تراه الدول العظمى مشروعاً ترفياً فضلاً عن انعدام الاسباب الموجبة لتحقيق استقلال شعب رُفعت المظلومية عنه وتحققت جلّ طموحاته.
يجب على الأحزاب الرئيسة في الدولة العراقية أن تعتمد على حكمائها وتنتقي خبراءها في ادارة الدولة لتطبيق الدستور برؤية بعيدة الأمد، ووضع نهاية لعهد الاتفاقات السياسية غير القانونية. كما يجب عليهم إيقاف حملات التشويه المفضوحة التى دأبت عليها بعض القوى المتصارعة على السلطة، كما يجب اتخاذ الاجراءات القانونية ضد منتسبيها في حال نشر اي إدعاءات مجافية للحقيقة أو مشاركتهم بصورة سلبية ومتعمدة في المحافل الدولية والمؤسسات الاعلامية والمؤتمرات العالمية. كما يجب أن تنتهي لغة التهديد والوعيد، فما أن يتفق العراقيون على أن لهم حقاً في بلدهم من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه، ستنتهي فتنة “المناطق المتنازع عليها”، لأن جميع شرائح الشعب اليوم في نزاع مع ساستهم على وحدة وطنهم وهويتهم الوطنية والانسانية، خصوصاً بعد أن شهدت الحرب على داعش تلاحماً وطنياً قلّ نظيره حيث امتزجت الدماء من جميع مكونات الشعب العراقي لأوّل مرة في تأريخه الحديث بهدف الدفاع عن الوطن في الحرب على الإرهاب الوافد والتدخل الأجنبي.
لعلَّ الحلّ يكمن في عودة الجميع الى طاولة الحوار الوطني والالتزام بروح الدستور العراقي وتنفيذ مواده والحفاظ على مكتسبات وحقوق الشعب العراقي دون تجاوز شريحة على أخرى، واعتماد القانون والقضاء فيصلاً في حل النزاع، ليكون الجميع مواطنين من الدرجة الاولى، شريطة الاعتزاز بالهوية الوطنية العراقية التي يجب أن تسمو فوق كل الانتماءات الفرعية، القومية والدينية والمذهبية، كما هو متعارف عليه في الدول الديمقراطية المتقدمة، لضمان غد أفضل ومزدهر لشعوبها وأجيالها. العراق بحاجة الى استفتاء على وحدته، لا على تمزيقه وتقسيمه.