عُرفَ شهرُ تموز، تاريخياً، بأنه شهرُ الثورات في أصقاعٍ عديدةٍ من العالم؛ فالأمريكيون أعلنوا فيه الاستقلال، والفرنسيون اقتحموا سجنَ الباستيل، والعراقيون أطاحوا بالملكية. وقد كان هناك مؤخّراً مزيدٌ من التعليقات على فكرةِ الثورةِ في العراق، إذ يعاني البلدُ من عذابِ صيفٍ آخرَ، وآلام 15 عاماً من عدم الاستقرار وفشل توفير الخدمات، وعقودٍ من التسلّطِ والحربِ. إنّ تاريخَ العراق بعد العام 1958 يُشير إلى أن هذا الأمر يمكن أن يؤدي إلى لحظة أخرى بالغة الخطورة في غياب حركة تستند إلى حوار وطنيّ لإحياء الفيدرالية المهملة.
هنا أودُّ أن أناقشَ مسألةَ أنّ الآباءَ المؤسسين لأمريكا، الذين وضعوا نموذجاً للنظام الفيدرالي الفعّال، والذين تأسّستْ أفكارهم على موجةٍ جديدةٍ من الاستكشاف الإيديولوجي للحرية في أوروبا برمّتها، يُمكن أن تقدّمَ صيغةً جيدةً لما تُمثلُّهُ بالضبط حركةٌ لبناء رؤية وطنية. سوف أبيّن أنّ هذا التاريخ التأسيسي الوطنيّ يمكن أن ينعكسَ في حوارٍ وطنيّ جديد من أجل العراق.
ما من مأثرةٍ لأحدٍ في تبيانِ أوجهِ القصورِ في النظام السياسي العراقي، وهو ما نوّهتُ به مراتٍ عديدةً على مرّ السنين. فقد منحت العديد من الحكومات الطموحات السياسية الحزبية والمصالح المالية الخاصة الأولوية على تطوير الدولة، وأتاحت للفساد بالاستفحالِ، متجاهلةً الخطرَ المُحدقَ بشعبنا الذي يتكاثرُ بسرعة، ومطالبَهُ المشروعة التي تزدادُ كلّ عام. ويواجهُ العراقُ أيضاً توأمَ الفسادِ وسوءِ الإدارة، فقد تعثّرتْ عبر سنوات عشراتُ المشاريع الاستراتيجية المهمة، أو خسرناها في صراعات السلطة المتكررة على غنائم الثروة النفطية والعقود التي أدّت إلى مشاريع بلا نفعٍ أو فائدة.
كانت ثمرةُ هذا التكالب والابتزاز تدميرَ الخدمات في البصرة، وفقدان أبسط حقوق الإنسان الأساسية في التزوّد بالماء. وفي مثل هذا الوقت المشحون عاطفياً، سيتوجّهُ على نحوٍ طبيعي العراقيون، أو أيّ مواطن يعاني من مثل هذه الأزمة، إلى الشوارع مطالبين بتغيير جذريّ. وهنا هو الموضعُ الذي يجبُ على العراق أن يضغط فيه على زرّ التوقّف.
يتطلّبُ أيُّ تغييرٍ أُسساً فكريةً متينةً، وحركاتٍ تاريخيةً تُفضي إلى رؤىً وطنيةٍ جديدةٍ، وحقبٍ منتجةٍ تبني المكاسب الصغيرة على المكاسب الصغيرة على مدى عقود. والعراق حاول بناء مثل هذه الأسس مرة واحدة في تاريخِهِ الحديث، وذلك في السنوات التي سبقت العام 2003، عندما عُقدت مؤتمرات المعارضة، ولاحقاً بعد الغزو مع بدءِ عملية كتابة الدستور.
سرعان ما واجهَ أولئك الذين أرسوا دعائمَ نهاية الديكتاتورية الرهيبة، التي قتلت بالغازات السامّة ودفنت في مقابر جماعية آلافَ المواطنين العراقيين، تحدياتٍ أكبرَ، وعلى نحوٍ أساسيّ إلغاءُ مسؤولية معظم الطبقة السياسية.
وبالمقارنة، فإنّ هذا يتعارضُ مع لبنات البناء الأساسية للولايات المتحدة الأمريكية، وهي بنيةٌ سياسيةٌ اتحاديةٌ تتطورُ باستمرار، بنية غنية بالمواردِ وأمّة شهدت ثورة دموية وحرباً أهليةً مدمّرةً. إذ لم يتمَّ تأسيسُ أمريكا على أساس صفقات الغرف المغلقة، أو على اساسِ “لحظة” مثل لحظة استسلام البريطانيين في يوركتاون. بُنيت الولايات المتحدة على عملية نقاش شديدة السلاسة جمعت الولايات حول وثائق تأثّرت افكارُها ببعض أشدّ المفكرين راديكاليةً في ذلك الوقت.
قد تبدو هذه المقارنةُ لبعضهم مقارنةً ساذجة، لكن أمريكا لم تصبح قوة عظمى مصادفةً، أو بفضل الموارد التي يسهلُ التكالبُ عليها كما هو الحال في العديد من البلدان، لينتهي الأمرُ إلى فوضى لا نهاية لها. فقد كانت الولايات المتحدة في القرن الثامن عشر، مثلُها مثلُ فرنسا والمملكة المتحدة، تمرّ بلحظة ثقافية تضع أسس الازدهار الدائم في أوروبا وأمريكا الشمالية. ومن السذاجةِ بمكان أن يقول المرءُ إنّ هذه اللحظات التأسيسية خلت من القمع أو الخلاف، وبهذا فهي لا تختلف عن العديد من السرديّات التاريخية التي تُستلَذُّ فيها الأساطير.
يمكن لأسلافِ أمريكا من المثقفين أن يُنادوا بقواسمَ مشتركةٍ أيديولوجية حقيقية. وُلدت أمريكا من رحمِ نقاش حيويّ، وغالباً من خلافٍ مستحكمٍ، ولكن في نهاية المطاف كانت فترة صعبة من التسويات التي شكّلت المشهد الاجتماعي لأجيال.
أمّا العراقيون فيجب أن تكونَ هذه الحقبةُ بالنسبة إليهم حقبةً حاسمةً يجبُ مراعاتها في تطور الديمقراطية الفيدرالية، مع التدابير التي يجري تكييفُها للوضع الوطنيّ، ولكن الأهمّ من ذلك، تصميمُها على نحوٍ يجعل العملية السياسية في حراكٍ دائمٍ.
إنّ هذا التاريخ أمرٌ حيويّ للنظر فيه لأن الديمقراطيات الفيدرالية لا يلزمُ أن تكونَ الحالة النهائية للحكومة، بل هي تخضع لعملية التغيير. ومن الجليّ أنّ بنا حاجة إلى حوارٍ وطنيّ جديد في العراق على غرار الحوار في أمريكا عقب السنوات التي تلت هزيمة البريطانيين، وذلك ليس من أجل محاربة الطائفية حسبُ، ولكن لإعادة بناء نظام حكم يشمل جميع الطوائف، من خليج البصرة إلى جبال كردستان.
ليس لدينا أدواتٌ للثورة، بما تنطوي عليه من مفكرين، وآباء مؤسسين يقيمون حركة معينة، حركة لبناء دولة، ولذلك سوف يرى أن العراقيون أنّ من أفضل الخيارات هو التطور، وليس الثورة، مهما بدا هذا الأمرُ الآن محبطاً للآمال.
يكمنُ دور المجتمع الدوليّ عبر هذه المسيرةِ في دعمنا في عملية يقودها العراقيون. أمّا البديل فهو سلسلةٌ من تداول السلطةِ استناداً إلى نزعة شعبية مزيّفة، وهي الحكاية المحبطة نفسها التي مرّت على العراق في الأعوام 1958، و 1963، و 1968. في كل عام من هذه الأعوام، كان العراقيون يتلقّون أنباء عن لحظة وطنية جديدة سوف تؤدي إلى الازدهار المنصف والتحرّر الوطني، إلى ولادة جديدة أو انبعاث، مثلما أعلنت حركة البعث في أصل اسمها.
ومكمنُ الخطر اليوم هو أن المتعطّشين للتغيير سوف يرون “لحظة وطنية” جديدة، لكن من دون أسسٍ أيديولوجية ولا عملية حوار وطنيّ، ولن يكون هناك ببساطة غير “لحظة” بدلاً من “حركة”. ووجهُ الشبهِ هو أنّ رجلاً قويّاً آخر سيظهر بلا رؤية موحّدة.
لقد بنى الآباء المؤسسون الأمريكيون مثل هذه الرؤية، وهي أساس البنى السياسية المعزّزة ذاتياً عبر ثورة عنيفة وجدالات المريرة وأفضت في النهاية إلى تسوية ثابتة وسلام وازدهار. وكانت نقطة الشروع هي طبقة المفكرين الجذريين التي منحتْنا نقطة الانطلاق النقدية الأولى، وهو ما افتقده العراق من فرصٍ للاستثمار الثمين في إعادة بناء النظام التعليمي.
درس العديدُ من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة في الكليات الكولونيالية التي تطوّرت لاحقاً لتشكّل ما يُسمى الآن كليات “آيفي ليگ”. وقد كتب جون آدمز دستور ولاية ماساتشوستس قبل أن يستعملَ بعض الأفكار الأساسية لتلك الوثيقة في كتبة دستور الولايات المتحدة.
أمّا كتيّب توماس ﭙيْن المعنون المنطق السليم، فقد وصف مستقبل التحرّر من الاضطهاد البريطاني، والانتخابات الحرّة، وعدداً كبيراً من الحريات والحقوق الفردية، التي ألهمت حركة الاتحاد الوطنية الأولى، أصبح هذا الكتيّب وثيقة مقروءة على نطاق واسع في المستعمرات، حتى أنّ كلّ من قرأها احتفظ بنسخة منها.
يجدرُ أن نتذكرّ أنّ ما هو حيويّ هو أنّ الآباء المؤسسين لم يكونوا مجرّد أسماء نقرنها الآن بولادة أمّة، بل أنّ خلف كاتب إعلان الاستقلال، توماس جيفرسون وأولئك الذين حضروه في الاجتماع الأساسي في فيلادلفيا، يقفُ آلاف المناصرين من المواطنين الذين ضحّى الكثير منهم من أجل هذه المبادئ.
استغرق الأمر شهوراً من الجدالات، وتشكيل اللجان، ومضاهاة مسوّدات عديدة. ونوقشت قضايا من قبيل الضرائب، ونظام المجمع الانتخابي، ومبدأ الرقابة والتوازن لأمّة اتحادية ذات مجلسيْن تشريعييْن، وهي اللبنات التي منحت الولايات المتحدة طواعيةً وقوّة سياسية. ولعلّ جميع هذه القضايا المهمّة أُهملت في العراق.
لم يكن هذا ترتيباً يتمتّع به الشعب الأمريكيّ بنعمة الاستقرار المؤكّد، ما دامت الولايات المتحدة ستمرّ لاحقاً بصراع دمويّ للتمسّك بكلّ شيء أُخذ من البريطانيين، وذلك عندما تحدّت الولايات الجنوبية الشمالَ في الحرب الأهلية الأمريكية.
عانت فرنسا أيضاً، خلال القرن التاسع عشر، من حقب مضطربة عندما واجهت الأسس الفكرية للجمهورية مراراً وتكراراً خطر العودة إلى الاستبداد، والثورة المتجددة، والإمبريالية، والانقلابات. وخلال تلك المرحلة، ظلّ المفكرون الفرنسيون يواصلون بناء الأسس الأيديولوجية للجمهورية، ولا سيّما مع تحفة جان جاك روسو العقد الاجتماعي، وآخر عمل معتبر ألكسيس دي توكـﭭيل النظام القديم والثورة، الذي كان أحد الأعمال الأولى في الثورة، مواصلاً تراثاً من الأدبيات الجذرية أولى فيها المفكرون عنايتهم للجدالات الوطنية النقدية.
إنّ معضلة العراق تكمنُ في أنّ العديد من العراقيين يعتقدون بأنّ التغيير الجذري يمكن أن يحدث بإزالة حكومةٍ معينةٍ أو شخصية معينة، وقد كان هذا هو الوضع لدى الشخصيات الخطرة على نحوٍ متطرّف. والعراق لا يستطيع إنجاز هذه العملية بنفسه ما دام مجتمعُهُ قد صارع مراراً وتكراراً تدخلاتٍ أجنبيةً سلبيةً انتقصت من سيادتنا.
ما يمكنُ أن يعمل عليه العراق هو أن يستمرّ في طلب الخبرات الأجنبية من أجل بناء مجتمع مدنيّ بقيادة العراقيين مع الاهتمام برؤية وطنية تُعنى بالمستقبل. وكيفية إنجاز هذا الرؤية هو الخطوة الجوهري القادمة في مسيرتنا، ولكن لا يمكن إنجازها من خلال لحظة ثورية خطرة أخرى تُلقي إلى المجهول فرصة أن نصبح نحن من نبني مستقبلنا.
الوقتُ عاملٌ مهمّ، ويجبُ على العراق أن يعمل بدلاً من ذلك على بناء لبنات مسيرة التطوّر. ويجب أن تبدأ عملية البناء فوراً لأنّ التاريخ يُنبئنا أنها ستستغرقُ سنوات لتكوينها.
نشرت هذه المقالة بالاصل باللغة الانجليزية هنا.